فصل: تفسير الآيات (94- 95):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (90- 91):

{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}
{واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} مر تفسيرُ مثله في أول السورة {إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ} عظيمُ الرحمة للتائبين {وَدُودٌ} مبالِغٌ في فعل ما يفعل البليغُ المودةَ بمن يودّه من اللطف والإحسانِ، وهذا تعليلٌ للأمر بالاستغفار والتوبةِ وحثٌّ عليهما {قَالُواْ يَا شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} الفِقهُ غرضِ المتكلّم من كلامه أي ما نفهم مرادَك، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائلَ الحقِّ المبينِ على أحسن وجهٍ وأبلغِه وضاقت عليهم الحيلُ وعيّتْ بهم العلل، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلاً سوى الصدودِ عن منهاج الحقِّ والسلوكِ إلى سبيل الشقاءِ كما هو ديدَنُ المُفحَمِ المحجوجِ يقابل البيناتِ بالسبّ والإبراق والإرعاد، فجعلوا كلامَه المشتملَ على فنون الحِكَم والمواعظِ وأنواعِ العلومِ والمعارفِ من قبيل ما لا يُفقه معناه ولا يُدرك فحواه وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب، ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأممِ السالفة ولذلك قالوا: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا} فيما بيننا {ضَعِيفاً} لا قوة لك ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفعِ والإيقاعِ والدفع {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} لولا مراعاةُ جانبِهم لا لولاهم يمانعوننا ويدافعوننا {لرجمناك} فإن ممانعةَ الرهطِ وهو اسمٌ للثلاثة إلى السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوفٌ مؤلفةٌ مما لا يكاد يُتوّهم وقد أيد ذلك بقوله عز وجل: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} مُكْرمٌ محْترمٌ حتى نمتنع من رجمك، وإنما نكفُ عنه للمحافظة على حرمة رهطِك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، وإيلاءُ الضميرِ حرفَ النفي وإن لم يكن الخبرُ فعلياً غيرَ خالٍ عن الدِلالة على رجوع النفي إلى الفاعل دون الفعلِ لاسيما قرينة قولِه: ولولا رهطُك كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز بل رهطُك هم الأعزةُ علينا وحيث كان غرضُهم من عظيمتهم هذه عائداً إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزةِ الربّانيّتين حسبما يوجبه كونُه على بينة من ربه مؤيَّداً من عنده ويقتضيه قضيةُ طلبِ التوفيقِ منه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه وإلى إسقاط ذلك كلِّه عن درجة الاعتدادِ به والاعتبار.

.تفسير الآيات (92- 93):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)}
{قَالَ} عليه السلام في جوابهم {ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} فإن الاستهانةَ بمن لا يَتعزّز إلا به عز وجل استهانةٌ بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزِّيّةَ رهطِه منه تعالى مع أن ما أثبتوه هو مطلقُ عزةِ رهطِه لا أعزّيتُهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزةِ لتثنية التقريعِ وتكريرِ التوبيخِ حيث أنكر عليهم أولاً ترجيح جنب الرهطِ على جنبة الله تعالى حظاً من العزة أصلاً {واتخذتموه} بسبب عدم اعتدادِكم بمن لا يرِدُ ولا يصدُر إلا بأمره {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} أي شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً لا يبالى به، منسوبٌ إلى الظهر، والكسر لتغيير النسب كالإِمسيّ في النسبة إلى الأمس {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال السيئة التي من جملتها عدمُ مراعاتِكم لجانبه {مُحِيطٌ} لا يخفى عليه منها خافيةٌ وإن جعلتموه منسياً فيجازيكم عليها. ويحتمل أن يكون الإنكارُ للرد والتكذيب فإنهم لما ادَّعَوا أنهم لا يكفّون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزّتِه بل لمراعاة جانب رهطِه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدَّرتم الله حقَّ قدرِه العزيزِ ولم تراعوا جنابَه القويَّ فكيف تراعون جانبَ رهطي الأذلة {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا} لما رأى عليه السلام إصرارَهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عما هم عليه من المعاصي حتى اجترأوا على العظيمة التي هي الاستهانةُ به والعزيمةُ على رجمه لولا حُرمةُ رهطِه، قال لهم على طريقة التهديد: اعملوا {على مَكَانَتِكُمْ} أي على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم يقال: مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن وإنما قاله عليه السلام رداً لما ادَّعَوا أنهم أقوياءُ قادرون على رجمه وأنه ضعيفٌ فيما بينهم لا عزةَ له، أو على ناحيتكم وجِهَتكم التي أنتم عليها من قولهم: مكانٌ ومكانة كمقام ومقامة، والمعنى اثبُتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّةِ لي وسائرِ ما أنتم عليه مما لا خيرَ فيه وابذُلوا جهدكم في مضارّتي وإيقافي ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوة إلى الفعل {إِنّى عامل} على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييدِ والتوفيق {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لما هدّدهم عليه السلام بقوله: اعمَلوا على مكانتكم إني عاملٌ كان مظِنّةَ أن يسألَ منهم سائلٌ فيقولَ: فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل: سوف تعلمون {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وصَف العذابَ بالإخزاء تعريضاً بما أوعدوه عليه السلام به من الرجم فإنه مع كونه عذاباً فيه خِزيٌ ظاهرٌ حيث لا يكون إلا بجناية عظيمةٍ توجبه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطفٌ على مَنْ يأتيه لا على أنه قسيمُه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل: سوف تعلمون مَن المعذَّبُ ومن الكاذب، وفيه تعريضٌ بكذبهم في ادعائهم القوةَ والقُدرةَ على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوانِ وفي ادعائهم الإبقاءَ عليه جانبِ الرهطِ، والاختلافُ بين المعطوفَين بالفعلية والاسميةِ لأن كذبَ الكاذبِ بمرتقَبٍ كإتيان العذاب بل إنما المرتقَبُ ظهورُ الكذبِ السابق المستمرّ. و{من} إما استفهاميةٌ معلِّقةٌ للعلم عن العمل كأنه قيل: سوف تعلمون أيُّنا يأتيه عذابٌ يُخزيه وأيُّنا كاذبٌ، وإما موصولةٌ أي سوف تعرِفون الذي يأتيه عذابٌ والذي هو كاذب {وارتقبوا} وانتظروا مآلَ ما أقول. {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظرٌ، فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالشعير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهارٌ منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.

.تفسير الآيات (94- 95):

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي عذابُنا كما ينبىء عنه قوله تعالى: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أو وقتُه فإن الارتقابَ مؤذِنٌ بذلك {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} وهي الإيمانُ الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنةٍ منّا لهم، وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لِما أنه لم يسبِقْه فيها ذكرُ وعدٍ يجري مجرى السببِ المقتضي لدخول الفاءِ في معلوله كما في قصتي صالحٍ ولوط. فإنه قد سبق هنالك سابقةُ الوعد بقوله: {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} عدل إليه عن الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمِهم الذي فُصّل فيما سبق فنونُه {الصيحة} قيل: صاح بهم جبريلُ عليه السلام فهلكوا، وفي سورة الأعراف {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة}، وفي سورة العنكبوت {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزلزلة، ولعلها من روادف الصيحةِ المستتبِعة لتموّج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جاثمين} ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منها، ولمّا لم يُجعل متعلَّقُ العلمِ في قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ} الخ، نفسَ مجيءِ العذابِ بل من يجيئه ذلك جُعل مجيئُه بعد ذلك أمراً مسلَّمَ الوقوعِ غنياً عن الإخبار به حيث جعل شرطاً وجُعل تنجيةُ شعيبٍ عليه السلام وإهلاكُ الكفرة جواباً له ومقصودَ الإفادة، وإنما قدّم تنجيتُه اهتماماً بشأنها وإيذاناً بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الربوبيةِ على الغضب الذي يظهر أثرُه بموجب جرائرِهم وجرائمهم {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} أي لم يقيموا {فِيهَا} متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العدولُ عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدلَّ على طغيانهم الذي أدّاهم إلى هذه المرتبةِ وليكون أنسبَ بمن شُبّه هلاكُهم بهلاكهم أعني ثمود، وإنما شُبّه هلاكُهم بهلاكهم لأنهما أُهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة، غير أن هؤلاءِ صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرئ {بعُدت} بالضم على الأصل فإن الكسرَ تغييرٌ لتخصيص معنى البُعد بما يكون سببَ الهلاك والبعدُ مصدرٌ لهما والبُعدُ مصدرٌ للمكسور.

.تفسير الآيات (96- 97):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} وهي الآياتُ التسعُ المفصّلاتُ التي هي العصا واليدُ البيضاءُ والطوفانُ والجرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدمُ ونقصُ الثمراتِ والأنفسِ ومن جعلهما آيةً واحدةً وعدّ منها إظلالَ الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكامِ التوراةِ حين أباه بنو إسرائيلَ، والباءُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من مفعول أرسلنا أو نعتاً لمصدره المؤكّد أي أرسلناه حال كونِه ملتبساً بآياتنا أو أرسلناه إرسالاً ملتبساً {وسلطان مُّبِينٍ} هو المعجزاتُ الباهرةُ منها أو هو العصا، والإفرادُ بالذكر لإظهار شرفِها لكونها أبهرَها أو المرادُ بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد، أي أرسلناه بالجامع بين كونِه آياتِنا وبين كونِه سلطاناً له على نبوّته واضحاً في نفسه أو موضّحاً إياها، من أبان لازماً ومتعدّياً، أو هو الغلبةُ والاستيلاءُ كقوله تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا} ويجوز أن يكون المرادُ ما بيّنه عليه السلام في تضاعيف دعوتِه حين قال له فرعونُ: {مِنْ رَبّكُمَا} {فَمَا بَالُ القرون الاولى} من الحقائق الرائقةِ والدقائقِ اللائقةِ وجعلُه عبارةً عن التوراة وإدراجُها في جملة الآيات يردّه قولُه عز وجل: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} فإن نزولَها إنما كان بعد مهلِك فرعونَ وقومِه قاطبةً ليعمل بها بنو إسرائيلَ فيما يأتون وما يذرون، وأما فرعونُ وقومُه فإنما كانوا مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عزَّ سلطانُه وتركِ العظيمةِ الشنعاءِ التي كان يدعيها الطاغيةُ وتقبلها منه فئتُه الباغية، وبإرسال بني إسرائيلَ من الأسر والقسْرِ، وتخصيصُ ملئه بالذكر مع عموم رسالتِه عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدبيرِ الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور، وإنما لم يصرَّح بكفر فرعونَ بآيات الله تعالى وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئِه فقال: {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي أمرَه بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حالِه فكأن كفرَه وأمْرَ ملئِه بذلك أمرٌ محققُ الوجودِ غيرُ محتاجٍ إلى الذكر صريحاً، وإنما المحتاجُ إلى ذلك شأن ملئِه المترددين بين هادٍ إلى الحق وداعٍ إلى الضلال فنعى عليهم سوءَ اختيارِهم، وإيرادُ الفاء في اتّباعهم المترتبِ على أمر فرعونَ المبنيِّ على كفره المسبوقِ بتبليغ الرسالةِ للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعةِ فرعونَ إلى الكفر وأمرِهم به، فكأن ذلك كلّه لم يتراخَ عن الإرسال والتبليغِ بل وقع جميعُ ذلك في وقت واحد فوقع إثرَ ذلك اتباعُهم. ويجوز أن يرادَ بأمر فرعونَ شأنُه المشهورُ وطريقتُه الزائغةُ فيكون معنى فاتبعوا فاستمرّوا على الاتّباع، والفاءُ مثلُ ما في قولك: وعظتُه فلم يتعظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ، فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسب العُنوانِ فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ فتأمل. وتركُ الإضمارِ لدفع توهُّمِ الرجوعِ إلى موسى عليه السلام من أول الأمرِ ولزيادة تقبيحِ حال المتبعين، فإن فرعونَ علَمٌ في الفساد والإفساد والضلالِ والإضلال فاتباعُه لفَرْط الجهالِة وعدمِ الاستبصار، وكذا الحالُ في قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} الرُّشدُ ضدُّ الغِيّ وقد يراد به محموديّةُ العاقبةِ فهو على الأول بمعنى المُرشد حقيقةٌ لغويةٌ والإسنادُ مجازيٌّ وعلى الثاني مجازٌ والإسناد حقيقيٌّ.

.تفسير الآيات (98- 100):

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ} جميعاً من الأشراف وغيرِهم {يَوْمُ القيامة} أي يتقدّمهم، من قدَمه بمعنى تقدّمه وهو استئنافٌ لبيان حالِه في الآخرة أي كما كان قدوةً لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه، أو لتوضيح عدمِ صلاحِ مآلِ أمرِه وسوءِ عاقبتِه {فَأَوْرَدَهُمُ النار} أي يوردهم، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على تحقق الوقوعِ لا محالة، شُبّه فرعونُ بالفارط الذي يتقدم الواردةَ إلى الماء، وأتباعُه بالواردة، والنارُ بالماء الذي يرِدُونه ثم قيل: {وَبِئْسَ الورد المورود} أي بئس الوردُ الذي يرِدونه النارُ، لأن الورد إنما يراد لتسكين العطشِ وتبريدِ الأكباد والنارُ على ضد ذلك.
{واتبعوا} أي الملأُ الذين اتّبعوا أمرَ فرعون {فِى هذه} أي في الدنيا {لَّعْنَةُ} عظيمةً حيث يلعنهم مَنْ بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة {وَيَوْمَ القيامة} أيضاً حيث يلعنهم أهلُ الموقفِ قاطبةً فهي تابعةٌ لهم حيثما ساروا دائرةٌ معهم أينما داروا في الموقف، فكما اتّبعوا فرعونَ اتّبعتْهم اللعنةُ في الدارين جزاء وفاقاً، واكتُفي ببيان حالِهم الفظيعِ وشأنِهم الشنيعِ عن بيان حالِ فرعونَ إذ حين كان حالُهم هكذا فما ظنُّك بحال مَن أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأنُ الأتباع أن يكونوا أعواناً للمتبوع جُعلت اللعنةُ رِفداً لهم على طريقة التهكّم فقيل: {بِئْسَ الرفد المرفود} أي بئس العونُ المُعانُ، وقد فُسر الرفدُ بالعطاء ولا يلائمه المقام، وأصلُه ما يضاف إلى غيره ليُعمِّده والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي رفدُهم وهي اللعنةُ في الدارين، وكونُه مرفوداً من حيث أن كلَّ لعنة منها مُعِيْنةٌ ومُمِدّةٌ لصاحبتها ومؤيدةٌ لها.
{ذلك} إشارةٌ إلى ما قُص من أنباء الأممِ وبعده باعتبار تقضّيه في الذكر والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأٌ خبرُه {مِنْ أَنْبَاء القرى} المهلَكة بما جنتْه أيدي أهلِها {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} خبرٌ بعد خبرٍ أي ذلك النبأُ بعضُ أنباءِ القرى مقصوصٌ عليك {مِنْهَا} أي من تلك القرى {قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي ومنها حصيد، حُذف لدلالة الأولِ عليه، شُبّه ما بقيَ منها بالزرع القائمِ على ساقه وما عفا وبطَل بالحصيد، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب.

.تفسير الآيات (101- 104):

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)}
{وَمَا ظلمناهم} بأن أهلكناهم {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بأن جعلوها عُرضةً للهلاك باقتراف ما يوجبه {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} فما نفعتهم ولا دفعتْ بأسَ الله تعالى عنهم {التى يَدْعُونَ مِن} أي يعبدونها {دُونِ الله} أُوثر صيغةُ المضارعِ حكايةً للحال الماضيةِ أو دِلالةً على استمرار عبادتِهم لها {مِن شَىْء} في موضع المصدرِ أي شيئاً من الإغناء {لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي حين مجيءِ عذابِه وهو منصوبٌ بأغنت، وقرئ {آلهتُهم اللاتي} و{يُدْعَون} على البناء للمجهول {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسِروا بسبب عبادتِهم لها.
{وكذلك} أي ومثلَ ذلك الأخذِ الذي مر بيانُه، وهو رفعٌ على الابتداء وخبرُه قوله: {أَخْذُ رَبّكَ} وقرئ {أخذَ ربُّك} فمحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدرٌ مؤكد {إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلَها وإنما أُسند إليها للإشعار بَسَريان أثرِه إليها حسبما ذُكر، وقرئ {إذْ أخذ} {وَهِىَ ظالمة} حالٌ من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مُقامَهم في الأخذ أُجريت الحالُ عليها وفائدتُها الإشعارُ بأنهم إنما أُخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرةً لكل ظالم {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وجميع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يخفى من التهديد والتحذير {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في أخذه تعالى للأمم الغابرةِ أو في قصصهم {لآيَةً} لعبرةً {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة} فإنه المعتبرُ به حيث يُستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذابِ الآخرة، وأما من أنكر الآخرةَ وأحال فناءَ العالم وزعم أن ليس هو ولا شيءٌ من أحواله مستنداً إلى الفاعل المختارِ وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكيةٍ تتفق في بعض الأوقاتِ لا لما ذُكر من المعاصي التي يقترفها الأممُ الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبارِ، تباً لهم ولما لهم من الأفكار {ذلك} إشارةٌ إلى يوم القيامةِ المدلول عليه بذكر الآخرة {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} للمحاسبة والجزاءِ، والتغييرُ للدلالة على ثبات معنى الجمعِ وتحقق وقوعِه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} {وَذَلِكَ} أي يومُ القيامة مع ملاحظة عنوانِ جمعِ الناس له {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهلُ السموات والأرضين فاتُسع فيه بإجراء الظرفِ مُجرى المفعولِ به كما في قوله:
في محفل من نواصي الناس مشهود

أي كثيرٌ شاهدوه ولو جُعل نفسُ اليوم مشهوداً لفات ما هو الغرضُ من تعظيم اليومِ وتهويلِه وتمييزِه عن غيره فإن سائرَ الأيام أيضاً كذلك {وَمَا نُؤَخّرُهُ} أي ذلك اليومَ الملحوظَ بعُنوانيْ الجمعِ والشهود {إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانقضاء مدةٍ قليلةٍ مضروبةٍ حسبما تقتضيهِ الحكمة.